منذ بداية تفشي وباء «كوفيد-19»، كان أحد التحديات الرئيسة هو نقص المعلومات حول الفيروس الجديد، ومع جهود العلماء حول العالم لدراسة الفيروس التاجي والمرض الذي يسببه، بدأت المعلومات الطبية تتراكم، لكن لكي تكون مفيدة، يجب جمعها وتحليلها بطريقة فعّالة، من هنا يبرز دور مفهوم Big Data أو «البيانات الضخمة».
فالانتشار الرهيب للعدوى وتضاعف أعداد الإصابة بفيروس كورونا المستجد، الذي بدأ يأخذ منحنى تصاعديًا ضخمًا في مارس الماضي، أدى إلى تكثيف الجهود لتوظيف مفهوم «البيانات الضخمة» في مواجهة الجائحة.
من بين الجهود تلك ما يعكف عليه حاليًا باحثون في معهد ماساتشوستس الأمريكي MIT، وهو من أهم الصروح العلمية المتخصصة في التكنولوجيا على مستوى العالم، أملاً في إيجاد الحل المؤكد لمواجهة الوباء قبل حلول الصيف.
التنبؤ بتداعيات الفيروس
الفكرة، وفقا للموقع الرسمي لمعهد MIT الأمريكي، تدور حول إمكانية التنبؤ الدقيق بمسار العدوى والمخاطر المحتملة للفيروس على الصحة والحياة العامة في المجمل، وهذا من شأنه المساهمة في تسريع إنهاء «الإغلاق العام» الذي يشل الحياة العامة ويضر ببالغ الأثر بالاقتصاد الأمريكي والعالمي.
فوسط موجة الأخبار اليومية حول فيروس كورونا وتداعياته، يبدو أن واضعي السياسات يواجهون خيارًا مستحيلاً بين إنقاذ الأرواح وإنقاذ سبل العيش.
فرغم أن الجهود المتمثلة في تحقيق «الابتعاد الاجتماعي» والحجر الصحي والمكوث في المنازل وجهود التخفيف الأخرى، تبدو ضرورية للحد من تأثير الوباء، إلا أن هذا وبشكل واضح يتسبب في ضرر بالغ للروتين اليومي وللأسواق، ولهذا يسعى العلماء نحو تركيز جهودهم لإنهاء هذا الكابوس بشكل سريع.
في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تُبذل الجهود الآن تحت قيادة جولي شاه، الباحثة في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوت بالمعهد ذاته، بهدف استخدام تقنيات الهاتف المحمول الحالية لتطوير تتبع جهات الاتصال لدى المستخدمين، فعندما يكون اختبار شخص ما إيجابيا لـ«كوفيد-19»، يمكن لمقدمي الرعاية الصحية حفظ أسماء أولئك الذين كانوا على مقربة من الشخص المصاب خلال الإطار الزمني المحدد سلفًا.
وباستخدام هذه المعلومات، يمكن لعلماء الكمبيوتر بعد ذلك دمج البيانات من مجموعات واسعة من المصادر، كتقدير كمية الفيروس في مياه الصرف الصحي على سبيل المثال، للتنبؤ بمخاطر العدوى الدقيقة على مستوى المجتمع المحلي.
هذه البيانات ستسمح بتقييمات للمخاطر تكون أكثر ديناميكية ودقة وحداثة بما يكفي للسماح للعلماء بتحديد ما إذا كانت المدارس وأماكن العمل يجب أن تكون مفتوحة أم يستمر إغلاقها.
كما سيمكنهم تقدير التوقيت المناسب لإعادة العمل بالمدارس والأماكن العامة، على غرار استخدامات الكمبيوترات العملاقة في التنبؤ بالطقس والزلازل وغيرها.
توظيف البيانات الضخمة
من جهة أخرى، شركة تدعى «إم دي كلون» على توظيف البيانات الضخمة في محاربة الفيروس، فالشركة العاملة في كندا وأمريكا، تسعى لتوفير حزمة تقنية تعتمد على مشاركة النتائج والبيانات الرئيسية التي تستخلصها المؤسسات الطبية المتعاملة مع حالات «كوفيد-19» في بيئة تعاونية، مما يوفر فهمًا أقوى لحالة الفيروس المتطورة، والتي تتجاوز المعلومات المحلية المحدودة في الدول المختلفة.
إن جمع البيانات وتحليلها بشكل فعّال، يُمكن أن يساعد في التنبؤ بعدد المرضى الذين تظهر عليهم أعراض «معتدلة» فقط، أو لا تظهر عليهم أعراض من الأساس، مما يشكل خطرًا على الآخرين، كما ستساعد «البيانات الضخمة» في تحديد العلاجات التي أثبتت أنها أكثر فعالية ولأي نوع من المرضى، وستعتمد هذه المنصة التقنية على البيانات المباشرة من السجلات الطبية الإلكترونية في المستشفيات.
وعلى مستوى أكبر، ساهمت البيانات الضخمة بالفعل في السيطرة –نسبيًا- على الوباء في الصين، أو على الأقل ساهمت إلى حد كبير في كبح تفشي الوباء في مختلف الأقاليم الصينية.
إذ استفادت الدولة في قدراتها الجبارة وخبرتها الكبيرة إلى جانب البنى التحتية التكنولوجية، في تحليل حجم شديد الضخامة من البيانات، ساهم فك شفرته في وضع السياسات الفعّالة في مواجهة فيروس كورونا، رغم كون الصين هي مهد هذا الفيروس.
ففي مقال له على شبكة فوربس الأمريكية، يشيد «برنارد مار» بالدور الحيوي للبيانات الضخمة في مكافحة فيروس كورونا، فالكاتب المتخصص في الكتابة التقنية، يرى أن إحدى المميزات التي نمتلكها اليوم في مكافحة الفيروسات التاجية لم تكن متوفرة عند تفشي وباء «سارس» عام 2003، ألا وهي «البيانات الضخمة» والمستوى العالي من التكنولوجيا المتاحة في الوقت الراهن.
دروس من الصين
بحسب برنارد، استفادت الصين من مفهوم البيانات الضخمة وتقنيات التعلم الآلي والأدوات الرقمية الأخرى مع انتشار الفيروس المرعب عبر الدولة، من أجل تتبع هذا التفشي واحتوائه.
واستمرت الصين في إعطاء الدروس للدول الأخرى بتجربتها مع محاربة انتشار الفيروس، باستخدام التكنولوجيا الرقمية، لتطوير تنبؤات في الوقت الحقيقي وتسليح المختصين في الرعاية الصحية وصناع القرار الحكوميين، بالمعلومات التي يمكنهم استخدامها للتنبؤ بأثر الفيروس.
وتُستخدم البنية التحتية المُخصصة للمراقبة في الصين بهدف تعقب المواطنين وتحديد سلوكياتهم منذ فترة طويلة، وأصبحت ثقافة المراقبة هناك مفيدة في استجابة مواطني الدولة الشيوعية لتعليمات السلطات وفق التدابير التي تم اتخاذها لمواجهة الأزمة.
فقد تم تركيب الماسحات الضوئية الحرارية في محطات القطار للكشف عن درجات حرارة الجسم المرتفعة تلقائيًا، وهي علامة محتملة على الإصابة، فإذا تم الكشف عن ارتفاع في درجة الحرارة، عندئذ يتم احتجاز الشخص المرصود من قبل مسؤولي الصحة لإجراء اختبار الفيروس.
وفي حال كان التحليل إيجابيا، ستنبه السلطات كل راكب آخر ربما يكون قد تعرض للفيروس حتى ينفذ الحجر الصحي الذاتي، وتم تفعيل هذا الإشعار بالفعل بفضل قواعد النقل في البلاد التي تتطلب من كل راكب يسافر في وسائل النقل العام استخدام اسمه الحقيقي وبطاقات الهوية الصادرة عن الحكومة.
وتمتلك الصين الملايين من الكاميرات الأمنية التي تستخدم لتتبع تحركات المواطنين والمساهمة في كشف الجرائم، وقد ساعد ذلك السلطات على اكتشاف الأشخاص الذين لم يلتزموا بأوامر الحجر الصحي.
فإذا كان من المفترض أن يكون الشخص في الحجر الصحي، في حين رصدته الكاميرات خارج مكان الحجر، فسيتم استدعائه من قبل السلطات للتحقيق، كما يتم استخدام بيانات الهاتف المحمول أيضا لتتبع حركات المصابين والمشتبه في إصاباتهم.
*نقلاً عن تقرير لنفس الكاتب نُشر في النسخة العربية من صحيفة AS الإسبانية
صحفي متخصص في التقنية والسيارات، عضو نقابة الصحفيين المصرية، المحرر العام السابق لمجلة «الشرق تكنولوجي»، ومحرر التقنية السابق بالنسخة العربية من صحيفة AS الإسبانية، ومؤسس «نوتشر دوت كوم»، شارك في تحرير إصدارات مطبوعة وإلكترونية متخصصة في التقنية بصحف عربية عدة.