لا تملك أمريكا –ولا غيرها- دليلا فنيا واحدا على التهديدات التي قد تسببها هواوي وشركات التقنية الصينية في العموم على أمنها القومي، ولكن لا يعني هذا غياب المخاطر.
عدد من تغريدات دونالد ترامب على مدار أشهر تعرضت للخلاف التكنولوجي مع بكين، كجزء من نزاع تجاري ممتد، بعضها منضبط وإيجابي، وأخرى تسير على خطى تصريحاته المثيرة والتي تخلو ربما من دبلوماسية الخطاب، لكن أشهرها التغريدة التي كُتبت قبل 5 أشهر، والتي أعرب فيها عن أمانيه أن تلحق شركات الاتصالات ببلاده بركب التقدم وتطلق سريعا شبكات الجيلين الخامس والسادس للاتصالات «في أقرب وقت ممكن».
ولعل شهرة التغريدة نابعة من «غرابتها» كونها تتجاوز حقيقة أن أمريكا لم تشهد حتى اللحظة إطلاقا كاملا لشبكات الجيل الخامس، وأن الجيل السادس-المذكور في التغريدة- لن يرى النور قبل عقد من الزمان، وفي كل الأحوال هي تغريدة تستهدف الصين بالأساس.
وبتخطي الجدل الذي أثاره هذا التصريح وقتها بين مستخدمي تويتر، من اتهامات لترامب بالـ«جهل» أو بغياب الجدوى من «تحفيز» مزودي الاتصالات نحو تطوير شبكاتهم عبر مجرد تغريدة من الرئيس، وليس بخطط وخطوات واضحة تعيد الزعامة لصناعة التكنولوجيا إلى وادي السيليكون الأمريكي، تبدو هواجس ترامب هذه المرة مشروعة، وبالتحديد فيما يتعلق بمخاطر الاعتماد على التكنولوجيا الصينية في تسريع دخول الولايات المتحدة إلى عصر الجيل الخامس من الاتصالات.
قلق مُبرر
القلق الذي يساور ترامب ومؤسسات دولته يبرره أمران، الأول نَهم الصين للبيانات والمعلومات الضخمة وتنوع آليات الحصول عليها، والآخر –وهو الأهم- طبيعة شبكات الـ5G (الجيل الخامس) وتطبيقاتها من الأساس، والتي تختلف جذريا عن الأجيال الأربعة السابقة، إذ لا تعني توفير سرعات الانترنت بمعدل يصل إلى 100 مرة من الجيل الحالي وحسب، وإنما منبع الخطورة الحقيقي هو مسؤوليتها عن إدارة ما يسمى بـ«إنترنت الأشياء» Internet of Things، ما يعني تحكمها في قطاع رقمي كبير –موجود حاليا- وسيمثل اتجاها تقنيا أكبر خلال العقد المقبل، وهي الأجهزة الذكية في المنزل والشارع.
تخيل أن حجما شديد الضخامة من البيانات سيمر عبر أبراج الـ5G بسرعات تصل في أقصاها إلى 10 جيجابايت في الثانية، يمكنها التحكم في ملايين من الأجهزة المنزلية الذكية والسيارات ذاتية القيادة وطائرات الدرون وحتى إشارات المرور تلقائية العمل، ألا يبرر ذلك مخاوف ترامب؟، والسؤال الأهم: هل يمكن للصين فعلا تثبيت «أبواب خلفية» في تقنيات البنى التحتية لشبكات الـ5Gتمكنها من الولوج مستقبلا لبيانات مواطني أمريكا والتحكم في حياتهم عبرها؟.
واقع مفروض
الحقيقة أن كلا من الواقع التقني والسياسي في الصين عزز تلك الفرضيات، يمكنك مثلا مطالعة خبر منشور بموقع The Verge الأمريكي في الأول من مارس، يكشف تعرض ملايين الصينيين للحرمان من استخدام رحلات الطيران والقطارات وعدد من الخدمات الأخرى، والسبب أن «رصيدهم الاجتماعي» منخفض.
الحزب الشيوعى الحاكم هناك، يتبنى نظاما رقميا مهمته تحليل بيانات المواطنين واستخداماتهم للتكنولوجيا، بالإضافة إلى ما يتم تغذيته للنظام من بيانات تطلقها أجهزة المراقبة المختلفة لسلوكياتهم اليومية، كالكاميرات في الأماكن العامة والشوارع وبرمجيات التجسس الموجهة من قبل الحكومة على تطبيقات التراسل المختلفة، مثل الفلاتر الخاصة بـWeChat (البديل المسموح به هناك لتطبيق واتس آب)، وبناء على كل هذا يحصل المواطن الصيني على «رصيد اجتماعي» يتحدد استنادا إليه مدى إمكانية وشكل الاستفادة من خدمات الدولة والدعم في بعض الأحيان.
نظام الائتمان الاجتماعي هذا يعكس –إلى جانب المركزية الشديدة لحكومة بكين- تهديدا غير مسبوق للولايات المتحدة، فالقدرة الفائقة للحكومة الصينية والشركات التقنية هناك في التعامل مع هذا الكم الهائل من البيانات وتحليليه على هذا النحو، يمكن أن يتم تطبيقه بالمثل مع ملايين البشر عالميا، وربما كان مواطني الولايات المتحدة هدفا سهلا للصين في أي نزاع حقيقي مستقبلا.
استشعار الخطر
كل هذا وأكثر ربما دفع صانعي القرار في دول كبرى مثل استراليا وبريطانيا إلى استشعار الخطر، وإيقاف التعاون مع الشركات الصينية وفي مقدمتها هواوي في مجال تأسيس البنى التحتية لشبكات الجيل الخامس، رغم أن التعاون الاقتصادي لم يغب عن تلك الأطراف في مجالات أخرى.
فالأسبوع الماضي مثلا، وبحسب تقرير نشره Tech Crunch، خلصت لجنة برلمانية فنية في بريطانيا، إلى عدم وجود أسباب تقنية يمكن الاستناد إليها لاستبعاد هواوي من بيع أدوات شبكات الـ5G هناك، ورغم ذلك، حثت اللجنة مزودي الاتصالات على تجنب استخدام معدات الشركة الصينية، تفاديا لأية مخاطر تقنية محتملة تهدد الأمن القومي للبلاد.
والدول الكبرى ليست وحدها من تواجه الخطر الصيني، وإنما دولة مثل فيتنام أثارت استغراب المتابعين بإقدامها على إيجاد بديل لهواوي في تأسيس شبكات الـ5G، رغم التعاون اللصيق في المجال التجاري مع بكين، إذ لجأت «فييتيل»، مزود الاتصالات الرئيسي هناك والمملوك للدولة، إلى التعاقد مع نوكيا وإريكسون لإنجاز تلك المهمة، رغم الكلفة العالية مقارنة بالأسعار التنافسية التي تقدمها الصين.
ويشير الكاتب «ريمون تشونج» في مقال بصحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن فيتنام أقدمت على تلك الخطوة في هدوء وحذر شديدين خوفا من إثارة غضب بكين بالقول علانية إنها لن تعتمد على هواوي في شبكات الـ5G، لكنها تشعر بالخطر على أمنها السيبراني جراء خطوة كهذه، فبيانات الدولة الصغيرة –وغيرها- ربما تصبح صيدا ثمينا للتنين الصيني مستقبلا.
نقلا عن مقال للكاتب نفسه نُشر بموقع “ساسة بوست” في يوليو 2019