ربما لم يصل تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) إلى ذروته بعد، رغم أن شهر مارس الجاري حمل للعالم أرقاما فاقت كل التوقعات على مختلف الأصعدة، سواء في عدد الإصابات حول العالم أو الوفيات جراء الوباء.
لكن البيانات المتعلقة بالصحة ليست وحدها ما يؤرق العالم، فأرقام الاقتصاد هي الأخرى تشغل حيزا كبيرا لدى الساسة والمؤسسات المختلفة بل والأفراد في كافة الدول، مع توقعات بركود عالمي هو الأسوأ منذ عقود، تتجاوز تداعياته الأزمة المالية العالمية في 2008، بحسب تصريحات حديثة للسيدة “كريستالينا جورجيفا”، مدير صندوق النقد الدولي.
وبينما يرى خبراء أن السيطرة على الوباء باتت ممكنة حتى مع تضاعف أرقام تفشيه حاليا، إلا أن ذلك يتطلب كلفة اقتصادية باهظة، وخسائر ستطال قطاعات اقتصادية عديدة قبل أن يتحقق الأمل المنشود في السيطرة على كورونا وكبح جماح العدوى، كما فعلت الصين أخيرا.
معاناة الاقتصادات الكبرى
وتعاني الولايات المتحدة، باعتبارها البلد الأهم اقتصاديا ولكونها أيضا واحدة من أكثر البلدان تضررا من الوباء، من التداعيات السلبية لكورونا على اقتصادها، فقد وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الجمعة، بعد موافقة مجلس النواب، على حزمة إنقاذ بقيمة 2.2 تريليون دولار، وصفت بأنها “الأكبر” في تاريخ أمريكا، وذلك لمواجهة فيروس كورونا المستجد.
حزمة الإنقاذ هذه، وفقا لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، تعادل ضعفي أكبر حزمة إنقاذ سابقة بالولايات المتحدة، بحسب وصف ترامب نفسه، كما أقدم الرئيس على تفعيل قانون “الإنتاج الدفاعي”، والذي يخوله سلطة إجبار الشركات نحو تصنيع منتجات دفاعية، إذ بإمكانه الآن مثلا إجبار شركة “جنرال موتورز” على صناعة أجهزة تنفس صناعي، سيحتاجها القطاع الصحي هناك لمواجهة التداعيات السلبية للفيروس على الصحة.
وأمريكا ليست وحدها، فبحسب شبكة CNN الأمريكية، وضعت دول أخرى حزم تحفيز لاقتصاديتها، منها إسبانيا التي أعلنت مؤخرا عن حزمة بقيمة 200 مليار يورو، أي ما يعادل 220 مليار دولار.
وعلى غرار إسبانيا، أعلنت ألمانيا عن حزمة إنقاذ بنحو 750 مليار يورو، بما يعادل 824 مليار دولار، فيما رصدت بريطانيا ضمانات قروض بقيمة 397 مليار دولار، كما أقدمت على تعليق الضرائب وتغطية 80% من رواتب العمال بحد أقصى 2500 إسترليني شهريا، ولمدة 3 شهور، إضافة إلى إجراءات أخرى أقدم عليها مصرفها المركزي (بنك إنجلترا)، فيما تقترب فاتورة الإنقاذ الإجمالية على مستوى العالم من 7 تريلونات دولار، بحسب تقديرات الخبراء.
قطاعات أنهكها الفيروس
قطاعات اقتصادية عديدة باتت منهارة بفضل تفشي وباء كورونا، من بينها قطاعات السياحة والطيران والفنادق والخدمات، إلى جانب صناعات الترفيه المختلفة والرياضة أيضا، لكن قطاعا هو الأهم يشهد خسائر كبيرة حاليا، مع تعطل كثير من وجهات التنقل بين البلدان، وهو قطاع التصدير العالمي، والذي بلغت خسائره، وفقا لتقرير أممي مطلع مارس الجاري، نحو 50 مليار دولار، وهو بالتأكيد أكبر من ذلك حاليا، مع تضاعف أرقام الإصابات بالفيروس المرعب عالميا.
ويشير تقرير حديث لـ”أونكتاد” (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية)، مطلع مارس، إلى أن تدابير احتواء الفيروس في الصين، التي شهدت الظهور الأول والتفشي للفيروس نهاية 2019، تسببت بالفعل في انخفاض كبير بالإنتاج، قُدّر إلى ما نسبته 2% على أساس سنوي، جاء كنتيجة مباشرة لانتشار فيروس كورونا المستجد.
فالصين، وبحسب التقرير، أصبحت خلال العقدين الماضيين أكبر مُصدر في العالم وجزءا لا يتجزأ من شبكات الإنتاج العالمية، ووطدت نفسها كمزود رئيسي للعديد من مدخلات ومكونات المنتجات المختلفة، مثل السيارات والهواتف المحمولة والمعدات الطبية، وغيرها.
كوارث أسواق الأسهم
أما أسواق الأسهم عالميا فكانت –وكما هو متوقع- الأكثر تأثرا بالسلب جراء فيروس كورونا، إذ يشير تقرير حديث لوكالة رويترز، نشر قبل أسبوع، إلى أن أسواق أوروبا وأمريكا قابلت أرقاما قياسية سلبية للغاية لم تشهدها منذ سنوات طويلة، بل إن بورصة وول ستريت مثلا، بين 16 و21 مارس، شهدت أسوأ أسبوع في تاريخها، فمؤشر داو جونز هبط في 16 مارس بنسبة 12%، وهو بمثابة اليوم الأسوأ للمؤشر على الإطلاق منذ انهياره عام 1987.
وول ستريت لم تعان وحدها من الأرقام القاسية السلبية، إذ يشير تقرير آخر منشور على النسخة الإنجليزية لموقع BBC إلى أن مؤشر “فوتسي” هو الآخر شهد أكبر انخفاض له منذ العام 1987، ليسجل مع “داو جونز” التراجع الأكبر لهما في يوم واحد منذ 33 عاما، إذ يخشى المستثمرون من أن انتشار الفيروس التاجي سيدمر النمو الاقتصادي، وقد لا تكون الإجراءات الحكومية كافية لوقف تراجع الأسهم، رغم التعافي النسبي الذي شهدته الأسواق العالمية مؤخرا بعد الموافقة على المساعدات الأمريكية بما يتجاوز ترليوني دولار لمساعدة الشركات والعمال.
وكرد فعل عن تلك الخسائر، أقدمت البنوك المركزية في العديد من البلدان، في مقدمتها الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأمريكي) وبنك انجلترا، على خفض أسعار الفائدة، وهي خطوة من المفترض أن تؤدي –نظريا- إلى جعل الاقتراض أرخص، بما يشجع على الإنفاق لتعزيز الاقتصاد.
الصين والدروس المستفادة
إن تأثير الفيروس التاجي على الاقتصاد العالمي عميق وخطير، وهذا ما يشير إليه تقرير حديث لصندوق النقد الدولي بعنوان “الدروس الاقتصادية المستفادة من حرب الصين ضد فيروس كورونا” والمنشور على الموقع الاليكتروني للمنتدى الاقتصادي العالمي، إذ تُظهر تجربة الصين حتى الآن أن السياسات الصحيحة تُحدِث فرقا في مكافحة المرض وتخفيف آثاره، ولكن بعض هذه السياسات تأتي مع مقايضات اقتصادية صعبة.
ويأتي النجاح في احتواء الفيروس على حساب تباطؤ النشاط الاقتصادي، ففي حالة الصين، نفذ صانعو السياسات قيودا صارمة على الحركة، على المستويين الوطني والمحلي، وهو ما كان له أثرا بالغا على النجاح في كبح جماح الفيروس، ففي ذروة تفشي المرض، فرضت العديد من المدن حظر التجول الصارم على مواطنيها، ما ساعد في تحقيق مفهوم “التباعد الاجتماعي” بشكل عملي وواقعي، لكن هذا النجاح أيضا جاء على حساب النشاط الاقتصادي.
فحزمة الإجراءات هذه في الصين قوبلت بسلسلة من التوقفات المفاجئة في النشاط الاقتصادي، وواجه الاقتصاد هناك صدمة كبيرة قوضت العرض والطلب في وقت واحد، كما هو واضح في البيانات الرسمية للإنتاج الصناعي ومبيعات التجزئة الضعيفة للغاية في الفترة من يناير إلى فبراير، فصدمة الفيروس التاجي شديدة حتى بالمقارنة بالأزمة المالية الكبرى قبل 12 عاما مضت.
*نقلاً عن تقرير لنفس الكاتب نُشر في النسخة العربية من صحيفة AS الإسبانية
صحفي متخصص في التقنية والسيارات، عضو نقابة الصحفيين المصرية، المحرر العام السابق لمجلة «الشرق تكنولوجي»، ومحرر التقنية السابق بالنسخة العربية من صحيفة AS الإسبانية، ومؤسس «نوتشر دوت كوم»، شارك في تحرير إصدارات مطبوعة وإلكترونية متخصصة في التقنية بصحف عربية عدة.