تقارير
الهواتف لتتبع «كوفيد-19».. فكرة قيد التنفيذ
الصين وكوريا الجنوبية استخدمتا تطبيقات الهواتف الذكية لمراقبة الأشخاص المصابين بالمرض، لكن لدى الأمريكيين وجهات نظر مختلفة بشأن الخصوصية وجمع البيانات
بيانات تبعث على التفاؤل تتدفق من «ووهان»، المدينة الصينية نفسها التي انطلق منها كابوس «كورونا المستجد»، الذي لا يزال يؤرق دول العالم أجمع، ويثير الذعر في أرجاء المعمورة، إذ بدأت ووهان فعليا في التعافي، بفضل التعامل الموفق للسلطات الصينية في مواجهة الوباء.
تقارير صحفية عديدة، منها تقرير مصور لقناة الجزيرة على أنستجرام، تناولت بالبحث والإشادة التجربة الصينية في مكافحة وباء كوفيد-19، وهي الجهود التي لاقت استحسانًا من منظمة الصحة العالمية نفسها، لكن الغريب في الأمر أن «ديكتاتورية» النظام الحاكم بالصين –كما يرى مراقبون- كان لها دور فعال في السيطرة على الوباء عن طريق التكنولوجيا.
إذ أن السلطات هناك تتجاوز أي مفهوم للخصوصية بشكل عام ومنذ فترة طويلة، استنادًا إلى مفهوم «الرصيد الاجتماعي» المستخدم في تقييم سلوك المواطنين عن طريق التكنولوجيا، وهذه المرة كان تتبع المصابين عبر الهواتف الذكية وبشكل إجباري، سببًا في الحد من انتشار الوباء والسيطرة عليه –نسبيا- نهاية الأمر.
التكنولوجيا تكافح الوباء
إلى جانب جملة من الإجراءات الاحترافية والحازمة التي اتخذتها الصين، بحسب منظمة الصحة العالمية، كالسرعة في فرض الحجر الصحي على المدن الموبوءة، وبناء مستشفيات ميدانية مجهزة خلال أيام، كانت التكنولوجيا حاضرة وبقوة في تلك التجربة.
فقد تم الاعتماد على 4 محاور، أبرزها تسخير نحو 300 مليون كاميرا للمراقبة تتتبع بدورها المصابين، وتسخير طائرات الدرون الصغيرة في توعية مواطني المدن الموبوءة، إلى جانب تطبيقات كشف المصابين عن بُعد، وأخيرا والأهم هو استخدام تطبيقات تتبع المصابين عبر الهواتف الذكية.
الإجراء الأخير هذا هو ما تبحث دول عديدة حاليًا في إمكانية تطبيقه، أملاً في تتبع انتشار الفيروس المرعب والحد من انتشاره، لكن جدلاً أثير حول فاعلية ذلك الأمر في حال نجحت شركات التكنولوجيا بأمريكا والدول الأوروبية في تطوير تقنيات كهذه، وهل يمكن فعلا أن يطوق إجراء مماثل انتشار الوباء؟ أم أنه سيتسبب في خلق حالة أخرى من الهلع والالتباس عند مواطني تلك الدول؟، والجدل الأهم يدور حول مدى تهديد ذلك لخصوصية المستخدمين.
تجارب من الماضي
في 2011، ابتكر عالمان من جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، بحسب موقع «وايرد» الأمريكي، طريقة ذكية لقياس وانتشار الأنفلونزا، عبر تطبيق يسمى FluPhone يستخدم تقنية البلوتوث وإشارات لاسلكية أخرى كبديل للتفاعلات بين الأشخاص، ويمكنه التعرف على أعراض مستخدمه والإبلاغ على ما قد يسجله من بيانات عن تلك الأعراض.
مثلاً، إذا كان مستخدم التطبيق قد تناول الغداء مع شخص ثبت أنه مريض بعد ذلك، فسيخبره التطبيق بهذا الأمر، عبر إشعار يرسله التطبيق إلى هاتف المستخدم غير المصاب، كي يسارع الأخير لإجراء الفحص، الأمر الذي قد يسهم في إبطاء انتشار الأنفلونزا، وعلى غرار ذلك يمكن تطوير تطبيقات مماثلة لتتبع كوفيد-19 وباقي عائلة كورونا الأخرى.
ورغم الاهتمام الإعلامي الواسع وقتها بتطبيق FluPhone والذي تصدر العناوين الرئيسية لكثير من الصحف واهتمت به بشكل خاص هيئة الإذاعة البريطانية BBC عبر الصفحة الرئيسية لموقعها الإلكتروني في ذلك الوقت، إلا أن 1% فقط من الأشخاص في كامبريدج هم من تفاعلوا مع التطبيق، فيما لم يلق تجاوبًا يذكر من الآخرين، رغم أن مطوريه وعدوا بمساعدة السلطات الصحية على رصد انتشار الأنفلونزا.
اقتراحات بتجربة مماثلة
في وقت يهاجم فيه فيروس كوفيد-19 القاتل الولايات المتحدة، باعتبارها ثاني أكثر البلاد تضررًا من الوباء بعد إيطاليا، يقترح بعض التقنيين استخدام الهواتف الذكية لتتبع عمليات الإرسال والإبلاغ عن المصابين بهذا الفيروس.
وتثير تلك الفكرة العديد من الأسئلة، بما في ذلك مدى فاعلية مثل هذا النظام في الواقع، وما إذا كان سيخلق ارتباكًا غير ضروري في محيط استخدامه إذ لم تكن إشاراته تعمل بالدقة الكافية، والأهم هل تُمكن هذه الأدوات شركات التكنولوجيا أو الجهات الحكومية في تتبع الأشخاص وتهديد خصوصياتهم؟
جون كروكروفت وإيكو يونيكي، مطورا التطبيق سالف الذكر، يعتقدان -وفقا لموقع «وايرد» الأمريكي- أن تطبيقًا مشابهًا لـ FluPhone يمكن أن يساعد في محاربة الفيروس التاجي.
يقول كروكروفت: يمكن لوكالات الحماية الصحية استخدام تطبيق كهذا لوضع خرائط يتم تغذيتها ببيانات دقيقة، من أجل العمل على تقليص انتشار العدوى.
ويضيف: أن أحد التطبيقات سيساعد الباحثين أيضا على معرفة «مدة بقاء الفيروس على السطح، ونسبة السكان التي تحمل أعراضًا لتلك المرض»، كما سيساعد التطبيق على استهداف المناطق ذات الحالات الحرجة، وتركيز الموارد الطبية نحوها.
جهود بدأت فعليا
على غرار استخدام الهواتف الذكية بكوريا الجنوبية والصين لإبطاء انتشار كوفيد-19، بدأ بعض التقنيين الأمريكيين فعليا، ومنذ شهر مضى، في العمل على تطوير تطبيقات للتتبع، إذ نشأ مشروع مفتوح المصدر يسمى CoEpi في فبراير المنقضي، لتطوير تطبيق بوظائف مشابهة لـ FluPhone بهدف تتبع فيروس كورونا المستجد.
ويعمل فريق علمي بقيادة راميش راسكار، الأستاذ في معامل معهد «ماساتشوستس ميديا لاب» الأمريكي، على تطوير تطبيق يتيح للأشخاص تسجيل أعراضهم ومقارنتها مع الأعراض الخاصة بمرضى الفيروسات التاجية المعروفة، باستخدام البيانات المنقحة المقدمة من الدولة أو أقسام الصحة العامة الوطنية.
وبمرور الوقت، سيتم سؤال المستخدمين عما إذا كانوا مصابين أم لا، مما يوفر طريقة لتحديد عمليات الإرسال المحتملة بطريقة مشابهة لـ FluPhone، وقد أصدر الفريق نموذجًا أوليًا للاختبار يوم الجمعة الماضي.
ووفقا لموقع «وايرد»، كان راسكار يحشد باحثين ومديرين تنفيذيين آخرين في هذا الجهد، وكان على اتصال بمنظمة الصحة العالمية، ومراكز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض والوقاية منها، ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية بأمريكا، يقول راسكار: «إنهم يعطوننا توجيهات بشأن ما سينجح، رغم عدم تأييد أيا منهم للفكرة بعد».
من جانبه يقدم ستيفان جيرمان، الرئيس التنفيذي لمؤسسة بوتنار، وهي منظمة سويسرية تركز على الصحة ورفاهية الطفل، المشورة لراسكار، قائلاً إن التطبيق المقترح «لديه إمكانات قوية» ولكن يجب اختباره أولا في بيئة افتراضية، أو ما يعرف بـ«الصندوق الرملي» Sandbox، وهو مصطلح معروف ومتداول بين علماء الحاسوب والمختبرات العلمية بشكل عام، ويعني اختبار التطبيق في بيئة معزولة، بهدف رصد آثاره ومعالجة السلبيات التي قد تنتج عن استخدامه.
الأمل في وادي السيليكون
ويقترح آخرون إضافة تقنية مماثلة إلى الهواتف الذكية بشكل افتراضي، وحتى بدون موافقة المستخدمين وذلك للصالح العام وإنقاذًا للأرواح، إذ دعا خطاب مفتوح وقع عليه عشرات التقنيين والتنفيذيين والأطباء البارزين، نشر في 12 مارس الجاري، صناع التكنولوجيا بوادي السيليكون الأمريكي، إلى بذل المزيد من الجهود لمكافحة الفيروس التاجي.
وبحسب ما جاء في تقرير لشبكة NPR الأمريكية، أوصى بعضهم بشكل خاص شركتي أبل وجوجل، بصفتيهما المسيطرتان على سوق أنظمة الهواتف الذكية عالميًا، إلى تحديث برامج الهاتف الذكي الخاصة بهما لتيسير الاتصال بين الأشخاص، مما يمنح المستخدمين إذنًا لتطبيقات التتبع، إلا أن الشركتين لم تعلقا على تلك الدعوات.
وتشير الرسالة إلى أنه «إذا كان من الممكن بناء مثل هذه الخاصية قبل أن ينتشر الفيروس أكثر في كل مكان، فقد يمنع تطبيق كهذا تعرض الكثيرين لخطر العدوى»، ويضيف الخطاب: على المدى الطويل، يُمكن لتلك التقنيات أن تسمح باحتواء أوبئة الأمراض في المستقبل بشكل أكثر موثوقية، وجعل تتبع الاتصال على نطاق واسع -على غرار تجربتي الصين وكوريا الجنوبية- ممكنا في كل مكان.
فكرة جيدة ولكن..
يقول بيتر إكرسلي، الزميل التكنولوجي في مؤسسة «إليكترونيك فرونتير فاونديشن»، وأحد الموقعين على الخطاب، إنه يجب البدء في تنفيذ مثل هذا النظام دون إنشاء قاعدة بيانات وطنية يمكن أن تمكن المراقبة الحكومية على المستخدمين مستقبلاً.
ويضيف: يُمكن أن يتم تغذية البيانات على هاتفك بشكل تلقائي وخاص وبدون إرسال البيانات الخاصة التي لا تتعلق بالأعراض، أو تأمين مالكي الهواتف باستخدام برنامج أمان متقدم.
إن تفشي مرض كوفيد-19، بحسب إكرسلي، يلهم بسرعة مناهج جديدة للبحث العلمي ويساعد في اكتشاف الأمراض وتطوير الأدوية، وقد تبدو مراقبة الهواتف الذكية حلاً جيدًا لتتبع الانتشار، لكنها ليست مضمونة للعمل دائمًا، وقد تضر أكثر مما تنفع، لكنها تظل تجربة تستحق التنفيذ.
وجهة نظر أخرى
على جانب آخر، يرى علماء أن التطبيق المقترح ربما لا يعمل بدقة كافية، نسبة إلى طبيعة فيروس كوفيد-19، والخصوصية التي تميز انتشاره عن الفيروسات الأخرى.
فالهاتف مثلا، وبحسب دراسة علمية أُعلنت نتائجها العام الماضي، ونشرها موقع «بلوس وان» الأمريكي، سيكون قادرًا على تحديد موقعه بدقة تتراوح بين 7 و13 مترًا في المناطق الحضرية، وهي دقة أقل بكثير من المطلوب لتحديد المصابين، إذ ينتشر فيروس «كوفيد-19» بين الأشخاص الذين هم على بعد بضعة أقدام من بعضهم البعض، لذا فالتطبيق قد يوفر فقط صورة خام لخريطة الانتشار في غياب الدقة.
وجهة نظر أخرى حول قلة جدوى التطبيق تطرحها هانا فراي، الأستاذ المساعد في مركز التحليل المكاني المتقدم بجامعة كوليدج لندن بالمملكة المتحدة، وفقا لموقع «وايرد»، والتي تقول: «قد لا يكون الأمر بهذه السهولة لجعل تطبيق كهذا يعمل بشكل صحيح».
وتضيف: الأمر ليس بهذه البساطة، هل عبرت مسارات مع شخص مصاب بالفيروس؟، يمكنك الجلوس على بعد أمتار قليلة من شخص ما ولا تكون في خطر، في حين ربما تجلس على مقعد قطار كان يشغله شخص مصاب بالفيروس قبل ذلك بساعات عديدة وتكون فعلاً في خطر.
لهذا السبب ترى «فراي» غياب الجدوى من هذا التطبيق، بل تضيف بالقول إن المعلومات غير الصحيحة «قد تشجع على السلوك الخطر من خلال منح الناس إحساسًا زائفًا بالأمان، مما قد يدفع البعض ممن يعتقدون أنهم آمنون لزيارة الأقارب المسنين»، على حد تعبيرها.
كما قد يكون من الصعب –في رأي فراي- حمل الأشخاص على الإبلاغ عن وضعهم المُعدي بشكل موثوق أو التغلب على المخاوف بشأن الخصوصية، وسيحتاج 20% على الأقل من السكان إلى المساهمة في مثل هذا التطبيق ليكون فعالاً في نمذجة المرض والتنبؤ بانتشاره، وتضيف «فراي»: هذه أسئلة غير بديهية ستحدث فرقًا كبيرًا في فاعلية مثل هذا النظام، والذعر المحتمل الذي قد ينتشره.
وحتى الآن، لا تساعد حكومة الولايات المتحدة الجهود المبذولة لتطوير تكنولوجيا تتبع الفيروسات، إذ عقد البيت الأبيض اجتماعًا مع شركات التكنولوجيا قبل أسبوعين، لتشجيعها على المساعدة في مكافحة الفيروس التاجي، رغم أن استخدام الحكومة للتطبيقات المتعلقة بالفيروس التاجي في الصين وكوريا الجنوبية لم يكن إيجابيًا بشكل تام.
التجربة العملية بكوريا
في كوريا الجنوبية، أرسلت السلطات نصوصًا توضح بالتفصيل تحركات أشخاص محددين مصابين بـ كوفيد-19، مما أدى إلى إثارة الجدل والمساهمة في ترويج الشائعات، وهناك أيضا تستخدم الحكومة تطبيقًا عبر الهواتف الذكية لضمان بقاء الأشخاص في منازلهم عندما يُطلب منهم عزل أنفسهم.
وتم استخدام تطبيقي WeChat وAliPay الصينيين في كل مكان لتعيين «رموز بالألوان» للأشخاص، بهدف تحديد ما إذا كان يجب عليهم عزل أنفسهم أو التنقل بحرية، لكن بعض المواطنين يقولون إن الرموز يبدو أنها يتم تطبيقها بشكل تعسفي أو بناءً على المقاطعة التي يتواجدون فيها، وهناك أيضا دليل على أن التطبيقات تزود السلطات ببيانات مستخدميها.
في المقابل، يرى كثيرون أنه يمكن التغلب على تحديات الخصوصية وغيرها من القيود، منهم باحثون بجامعة كاليفورنيا بالقول إن الأمر «يستحق المحاولة»، خاصة وأن البيانات يتم رصدها بالفعل من قبل تطبيقات أخرى ليست بالأهمية التي سيكون عليها تطبيق تتبع المصابين.
*نقلاً عن تقرير لنفس الكاتب نُشر في النسخة العربية من صحيفة AS الإسبانية
صحفي متخصص في التقنية والسيارات، عضو نقابة الصحفيين المصرية، المحرر العام السابق لمجلة «الشرق تكنولوجي»، ومحرر التقنية السابق بالنسخة العربية من صحيفة AS الإسبانية، ومؤسس «نوتشر دوت كوم»، شارك في تحرير إصدارات مطبوعة وإلكترونية متخصصة في التقنية بصحف عربية عدة.